لمّا بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلّم اثنتي عشرة سنة، خرج مع عمّه أبي طالب في ركب للتّجارة سنة 582 م فلمّا نزل الرّكب بصرى من أرض الشام وهي قصبة حوران وكانت في ذلك الوقت قصبة للبلاد العربية التي كانت تحت حكم الرّومان وكان ببصرى راهب يقال له بَحيرا في صومعة له، وكان ذا علم من أهل النصرانية ولم يزل في تلك الصّومعة راهباً، إليه يصير علمهم عن كتاب يتوارثونه كابراً عن كابر.
فلمّا نزلوا ذلك العام ببحيرا وكانوا كثيرا ما يمرّون به قبل ذلك فلا يكلّمهم ولا يعرض لهم حتى كان ذلك العام نزلوا به قريبا من صومعته. فصنع لهم طعاما كثيرا وذلك ن شيء رآه وهو في صومعته.
فقد رآى رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الرّكب حين أقبلوا وغمامة تظلّه من بين القوم ثمّ أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة قريبا منه فنظر إلى الغمامة حتى أظلّت الشجرة وتهصّرت أغصانها ( مالت ) على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استظلّ تحتها.
فلمّا رأى ذلك بحيرا نزل من صومعته وقد أمر بذلك الطعام فصنع ثمّ أرسل إليهم فقال: إني صنعت لكم طعاماً يا معشر قريش، فأنا أحب أن تحضروا كلّكم صغيركم وكبيركم، وعبدكم وحرّكم.
قال له رجل منهم: والله يا بحيرا إن لك لشأناً اليوم ماكنت تصنع هذا بنا وقد كنّا نمرّ بك كثيراً فما شأنك اليوم؟ قال له بحيرا صدقت قد كان ما تقول ولكنكم ضيف وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاماً فتأكلون منه كلّكم. فاجتمعوا وتخلّف رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم لحداثة سنّه في رحال القوم تحت الشّجرة. فلما نظر بحيرا في القوم ولم يرى الصّفة التي يعرف ويجد عنده قال: يامعشر قريش لا يتخلّفن أحد منكم عن طعامي، فقالوا يا بحيرا ما تخلّف عنك أحد ينبغي له أن يأتيك إلا غلاما وهو أحدث القوم سنّاً فتخلّف في رحالهم، فقال: لا تفعلوا ادعوه فليحضر هذا الطّعام معكم ثم قام اليه رجل من قريش فاحتضنه وأجلسه مع القوم.
فلمّا رآه بحيرا جعل يلحظه لحظاً شديداً وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده من من صفته حتّى إذ فرغ القوم من طعامهم وتفرّقوا، قام إليه بحيرا فقال: يا غلام أسألك بحق اللات والعزى إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه؟ وإنما قال له بحيرا ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بها فأبى رسول الله أن يستحلفه بهما فقال له بحيرا : فبالله إلا أخبرتني عما أسألك عنه؟ فقال سلني عمّا بدا لك.
فجعل يسأله عن أشياء من حاله ومن نومه وهيئته فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يخبره بخبره فيوافق ذلك ما عند بحيرا من صفته ثمّ كشف عن ظهره فرآى خاتم النبوّة بين كتفيه وكان مثل أثر المحجمة ( يعني أثر المحجمة القابضة على اللحم حتى يكون ناتئاً ) فلما فرغ أقبل على عمّه أبي طالب فقال له: ما هذا الغلام منك؟ قال ابني، قال بحيرا: ما هو بابنك وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيّاً، قال: فإنّه ابن أخي، قال: فما فعل أبوه؟، قال: مات وأمّه حبلى به، قال: صدقت فارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه اليهود فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنّه شرّاً فإنه كائن له شأن عظيم فأسرع به إلى بلده. فخرج به عمّه أبو طالب سريعاً حتّى أقدمه مكّة حين فرغ من تجارته بالشّام.
إن بحيرا لمّا عرف رسول الله تخوّف عليه من اليهود فنصح لأبي طالب بالرجوع به سريعاً والمحافظة عليه.
وقد روت حليمة أنّ اليهود كانوا إذا رأوه وعرفوه حضّ بعضهم بعضاً على قتله حتى إنها كانت تضطرّ إلى الإختفاء به والإبتعاد عنهم، فقد كانوا في ذلك الوقت ينتظرون ظهور نبيّ وكان بعض المتعمّقين في الدّين يعرفون علامات ذلك النبيّ وسنذكر فيما بعد أوصافه صلّى الله عليه وسلّم المذكورة في التوراة ولا شكّ أن عالما مثل بحيرا يعرفها.
المصدر: كتاب رسول الله
للمؤلّف: محمد رضا